هل يمكن أن تكون الإسكندرية جميلة و هى لا تدرى ؟ بالأمس خرجت إلى الأنفوشى مرة أخرى بعد وقت طويل فى صحبة الست مريم ، رأت الناس أكثر نضارة من المرة السابقة ، رغم الغارات التى لا تنقطع ؟ و عندما شاهدت تمثال محمد على باشا لم تفكر أن تشكو له ، خافت عليه أن تهدمه الغارات ، و ضحكت من فكرة أنه يمكن أن يهرب على حصانه ، اندهشت للعمارات العريضة المهيبة ذات الشرفات المزخرفة على جانبي ميدان المنشية ، كيف حقا لم ترها من قبل بهذه العظمة ..
و حين اقترب الترام من نهاية لسان بحرى ، بدأت تسمع صوت الموج نغمات وادعة ، و تشم رائحة اليود منعشة ، و لما خرجت الترام إلى الهواء الطلق ، من الشارع الطويل البارد ، رأت زُهرة البحر أزرق بلا نهاية ، تتهادى أمواجه زبدية الذرى إلى الشاطئ ، و على الشاطئ علقت الشباك البُنية لمسافات طويلة ، تتدلى من حافتها السفلية قطع الرصاص الفضية الثقيلة ، و جوارها سفن ذات أشرعة ملمومة ، و فلائك صغيرة بلا أشرعة ، متوقفة أو مركونة فوق الرمال ، و بعيدا السفن الرمادية الضخمة، ذات المدافع الطويلة و القصيرة ، تنعكس بظلالها ، و ظلال صواريها و أعلامها ، تتراقص فوق الماء ، و على الشاطئ زحام النساء الشديد المبهج أيضا على باعة السمك ، لقد جاءت هنا مرة و لم تر ما تراه الآن.
كان ذلك فى العيد الصغير الماضي ، حقًا يختلف الصيف هنا عن الشتاء ، و هاهى ترى بعيون جديدة ، أى طاقة أعطتها المدينة التى يهجرها أهلها لتبقى فيها و تحبها ؟ هذا زحام ، زحام حقا لكنه مبهج ، نسوة ملفوفات فى الملاءات تركتها تسقط من على رءوسهن و أكتافهن فتأبطن أطرافها العليا ، و كشفن عن أكتاف حمراء غضة و أذرع لامعة ، و بان شعرهن تحت أغطية رءوسهن أحمر أو أصفر أو أسود الحواف ، و كلهم يدخلن فى أحاديث طويلة مع الباعة ، و ينطلقن فى الضحك العفوى ، و الباعة إرتفعت أصواتهم ، و بانت السعادة فى عيونهم فتهللت أساريرهم ، نساء كثيرات يشربن دم الترسة الذى يقدمه الباعة فى الأكواب ، و قد صحبن معهن فتيات صغيرات مشرقات الوجوه ، بناتهن اللاتى يردن لهن أن يكن مشرقات للأبد .
- لا تفزعى يا زُهرة ، دم الترسة كله غذاء ، و يسمن أيضا ..
- ما هى الترسة ؟
- إنها السلاحف المائية ، يأتي بها الصيادون يذبحونها ، جسدها يقطع و يباع لحمها بالأقة ، و دمها يشرب ، إنها أرخص أنواع السمك
و رأت زُهرة الأسماك الأخرى أكثر رونقًا مما رأت من قبل ، و راحت تتذكر أسماءها و تسأل عما لا تعرفه . و لاحظت أن الأنواع الآن أكثر من المرات السابقة ، جمبري أحمر و كابوريا برتقالية و دنيس فضى و مرجان أحمر مرقط و بورى أبيض و وقار أبيض و أحمر و قاروص فضى و سيوف طويلة بيضاء ملتفة كالأحزمة و موزة صغيرة بيضاء مكتنزة و ثعابين خضراء طويلة قوية و بربون أحمر قاتم و سبارس تميل إلى الرمادي قصيرة شبه بيضاوية ثقيلة و بطاطا بيضاء و بطاطا سوداء و مغازل مليئة باللحم طويلة سميكة و سردين فضى شاهق البياض لامع ينتشر بكثرة فى عشرات الطاولات الخشبية عليه زحام شديد فهو أرخص الأسماك ، و هذا موسمه ، و الكثير من النساء يذهبن لشراء كميات كبيرة لتمليحه و استخدامه فى الشتاء ..
لقد اشترت أمس كابوريا و جمبري و ثعابين ، أكثر من أقة من كل صنف ، أنفقت نصف جنيها كاملا من الجنيهات العشر التى تركتها لها أمها ، اشترت خمس أقات من السردين أيضا لتمليحه ، مالذي جعلها تسرف هذا الإسراف و هى تعلم أن راتب زوجها لا يتجاوز ثلاثة جنيهات كل شهر ، من المؤكد أنها عشرة الجنيهات التى تركتها أمها هى التى شجعتها على التبذير
من رواية : لا أحد ينام فى الإسكندرية
اترك تعليقك